الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
وعن ابن جريج قال قلت لنافع: أكان ابن عمر يكره أن يصلي وسط القبور قال: لقد صلينا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما وسط البقيع والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة رضي الله عنه، وحضر ذلك عبد الله بن عمر. رواه البيهقي وغيره. وممن كره الصلاة في المقبرة أبو حنيفة والثوري والأوزاعي. واحتج من قال بجواز الصلاة في المقبرة بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى على المسكينة السوداء بالمقبرة. وسيأتي قريبًا إن شاء الله حكم الصلاة إلى جهة القبر.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال دليلًا في هذه المسألة عندي قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لأن النصوص صريحة في النهي عن الصلاة في المقابر ولعن من اتخذ المساجد عليها، وهي ظاهره جدًا في التحريم. أما البطلان فمحتمل، لأن النهي يقتضي الفساد لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" والصلاة في المقابر منهي عنها، فليست من أمرنا فهي رد. ويحتمل أن يقال: الصلاة من أمرنا فليست ردًا، وكونها في المكان المنهي عنه هو الذي ليس من أمرنا.
إحداهما مأمور به منها ككونه صلاة، والأخرى منهي عنه منها ككونه في موضع نهي أو وقت نهي أو أرض مغصوبة أو بحرير أو ذهب ونحو ذلك فإنهم يقولون: إن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض النهي الفساد، وإن لم تنفك عنها اقتضاه. ولكنهم عند التطبيق يختلفون، فيقول أحدهم: الجهة هنا منفكة. ويقول الآخر: ليست منفكة كالعكس، فيقول الحنبلي مثلًا الصلاة في الأرض المغصوبة لا يمكن أن تنفك فيها جهة الأمر عن جهة النهي. لكون حركة أركان الصلاة كالركوع والسجود والقيام كلها يشغل المصلي به حيزًا من الفراغ ليس مملوكًا له، فنفس شغله له ببدنه أثناء الصلاة حرام، فلا يمكن أن يكون قربة بحال. فيقول المعترض كالمالكي والشافعي: الجهة منفكة هنا لأن هذا الفعل من حيث كونه صلاة قربة، ومن حيث كونه غضبًا حرام، فله صلاته وعليه غصبه كالصلاة بالحرير. وإلى هذا المسألة وأقوال العلماء فيها أشار في مراقي السعود بقوله: دخول ذي كراهة فيما أمر به بلا قيد وفصل قد حظر
فنفى صحة ونفى الأجر في وقت كره للصلاة يجري
وإن يك النهي عن الأمر انفصل فالفعل بالصحة لا الأجر اتصل
وذا إلى الجمهور ذو انتساب وقيل بالأجر مع العقاب
وقد روى البطلان والقضاء وقيل ذا فقط له انتفاء
مثل الصلاة بالحرير والذهب أو في مكان الغصب والوضو انقلب
ومعطن ومنهج ومقبره كنيسة وذي حميم مجزره
وأما الصلاة إلى القبور فإنها لا تجوز أيضًا، بدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" هذا لفظ مسلم. وفي لفظ له أيضًا: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" والقاعدة المقررة في الأصول: أن النهي يقتضي التحريم. فأظهر الأقوال دليلًا منع الصلاة في المقبرة وإلى القبر، لأن صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم. أما اقتضاء النهي الفساد إذا كان للفعل جهة أمر وجهة نهي ففيه الخلاف الذي قدمناه آنفًا وإن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد. وقال صاحب المراقي في اقتضاء النهي الفساد: وجاء في الصحيح للفساد إن لم يجى الدليل للسداد
وقد نهى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح عن الصلاة إلى القبور وقد قال: "وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" وقال تعالى:
والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ
من أدلة من قال: تصح الصلاة في القبور ـ ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: أن امرأةً سوداء كانت تقم المسجد وشابًا فقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها أو عنه فقالوا مات قال: "أفلا آذنتموني" قال: فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره. فقال: دلُّوني على قبره فدلُّوه فصلَّى عليها. ثمَّ قال: "هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها وإنَّ الله ينورها لهم بصلاتي عليهم". وليس للبخاري "إن هذه القبور مملوءة ظلمة" إلى آخر الخبر قالوا: فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة إلى القبر.
ومن أدلتهم أيضًا ـ ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعًا.
ومن أدلتهم أيضًا ـ ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر.
ومن أدلتهم ـ ما قدمنا من الصلاة على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما وسط البقيع، وهذه الأدلة يستدل بها على جواز الصلاة إلى القبور وصحتها. لا مطلق صحتها دون الجواز.
ومن أدلتهم ـ ما ذكره البخاري تعليقًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ: "ورأى عمر أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر. فقال: القبر القبر ولم يأمره بالإعادة" اهـ. وقال ابن حجر في الفتح: أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة. والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولًا في كتاب الصلاة لأبي نعيم شيخ البخاري. ولفظه: "بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر: القبر القبر? فظن أنه يعني القمر. فلما رأى أنه يعني القبر جاوز القبر وصلى" وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق. منها من طريق حميد عن أنس نحوه، زاد فيه: فقال بعض من يليني إنما يعني القبر فتنحيت عنه. وقوله القبر القبر بالنصب فيهما على التحذير. وقوله ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادى أنس على الصلاة. ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف اهـ منه بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن، وإن لم يمكن وجب الترجيح، وفي هذه المسألة يجب الجمع والترجيح معًا. أما وجه الجمع فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت وليس فيها ركوع ولا سجود، وإنما هي دعاء للميت فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور.
ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو الناقلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود. ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر. نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة، فيشمل الصلاة على الميت، فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده بل العكس. أما الصلاة على الميت فهي التي تعارضت فيها الأدلة. والمقرر في الأصول أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز، وللمخالف أن يقول: لا يتعارض عام وخاص. فحديث "لا تصلوا إلى القبور" عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت. والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة والخاص يقضى به على العام. فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية: منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقًا للعنه صلى الله عليه وسلم لمتخذي القبور مساجد، وغير ذلك من الأدلة ـ وأن الصلاة على قبر الميت التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود تصح لفعله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وابن عباس وأنس ويومىء لهذا الجمع حديث لعن متخذي القبور مساجد لأنها أماكن السجود. وصلاة الجنازة لا سجود فيها. فموضعها ليس بمسجد لغة لأنه ليس موضع سجود.
تنبيه
اعلم أن ما يزعمه بعض من لا علم عنده: من أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ القبور مساجد، يعني بالكتاب قوله تعالى:
أما الجواب عن الاستدلال بالآية فهو أن تقول: من هؤلاء القوم الذين قالوا لنتخذن عليهم مسجدًا؟ أهم ممن يقتدى به? أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم؟ وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في هؤلاء القوم ما نصه: "وقد اختلف في قائل هذه المقالة، أهم الرهط المسلمون أم هم الكفار؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري. وعلى القول بأنهم مسلمون كما يدل له ذكر المسجد لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية إنهم سيفعلون كذا لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا من طمس الله بصيرته فقابل قولهم
وأنه لا دليل في آية:
وأما الاستدلال بأن مسجد النَّبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مبنى في محل مقابر المشركين فسقوطه ظاهر. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فنبشت وأزيل ما فيها. ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: "فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشب، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة". الحديث. هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم قريب منه بمعناه. فقبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بنبشها وإزالة ما فيها. فصار الموضع كأن لم يكن فيه قبر أصلًا لإزالته بالكلية. وهو واضح كما ترى اهـ.
والتحقيق الذي لا شك فيه: أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها. كما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي: أن عليًا رضي الله عنه قال له: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".
ولما ثبت في صحيح مسلم وغيره أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه".
فهذا النهي ثابت عنه صلى الله عليه وسلم. وقد قال: "وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه". وقال جل وعلا:
وقد تبين مما ذكرنا حكم الصلاة في مواضع الخسف، وفي المقبرة، وإلى القبر، وفي الحمام.
وأما أعطان الإبل فقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أيضًا النهي عن الصلاة فيها، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ" قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم توضأ من لحوم الإبل". قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم" قال: أصلي في "مبارك الإبل": قال "لا" هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل".
وأخرج النسائي والبيهقي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل.
وقال النووي في (شرح المهذب): إن الإسناد الذي أخرجه به البيهقي حسن. وأخرج أبو داود في سننه في (باب الوضوء) من لحوم الإبل وفي (باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: "لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين" وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: "صلوا فيها فإنها بركة".
وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل".
واخرج ابن ماجه عن سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلى في أعطان الإبل ويصلى في مراح الغنم".
وترجم البخاري رحمه الله في صحيحه لهذه المسألة فقال: (باب الصلاة في مواضع الإبل) ثم قال: حدثنا صدفة بن الفضل قال: أخبرنا سليمان بن حيان قال حدثنا عبيد الله عن نافع قال: رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره وقال:
رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذه الترجمة التي لم يأت البخاري بحديث يطابقها ما نصه: كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه، ولكن لها طرق قوية، منها حديث جابر بن سمرة عند مسلم وحديث البراء بن عازب عند أبي داود وحديث أبي هريرة عند الترمذي، وحديث عبد الله بن مغفل عند النسائي، وحديث سبرة بن معبد عند ابن ماجه، وفي معظمها التعبير بمعاطن الإبل. ووقع في حديث جابر بن سمرة والبراء مبارك الإبل، ومثله في حديث سليك عند الطبراني، وفي حديث سبرة وكذا في حديث أبي هريرة عند الترمذي "أعطان الإبل". وفي حديث أسيد بن حضير عند الطبراني "مناخ الإبل" وفي حديث عبد الله بن عمرو، عند أحمد "مرابد الإبل" فعبر المصنف بالمواضع لأنها أشمل، والمعاطن أخص من المواضع، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء خاصة.
وقد ذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن دون غيرها من الأماكن التي تكون فيها الإبل. وقيل مأواها مطلقًا، نقله صاحب المغني عن أحمد ـ اهـ كلام ابن حجر.
وقال ابن حزم: إن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواترة بنقل تواتر يوجب العلم.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في صحة الصلاة في أعطان الإبل.
فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنها لا تصح فيها، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد وعليه جل أصحابه.
قال صاحب (الإنصاف): هذا المذهب وعليه الأصحاب. وفي الفروع هو أشهر وأصح في المذهب. وقال المصنف وغيره: هذا ظاهر المذهب وهو من المفردات.
وممن قال بهذا القوم (ابن حزم).
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن النهي للكراهة، وأنه لو صلى فيها لصحت صلاته. وقد قدمنا كلام أهل الأصول في مثل هذه المسألة.
واعلم أن العلماء اختلفوا في علة النهي عن الصلاة في أعطان الإبل.
فقيل: لأنها خلقت من الشياطين كما تقدم في الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الصحيح في التعليل، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين" وترتيبه كونها خلقت من الشياطين بالفاء على النهي، يدل على أنه هو علته كما تقرر في مبحث مسلك النص، ومسلك الإيماء، والتنبيه.
وقال جماعة من أهل العلم: معنى كونها "خلقت من الشياطين" أنها ربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطع صلاته، أو أذاه، أو تشويش خاطره. وقد قدمنا أن كل عات متمرد تسميه العرب شيطانًا. والإبل إذا نفرت فهي عاتية متمردة، فتسميتها باسم الشياطين مطابق للغة العرب.
والعرب تقول: خلق من كذا للمبالغة، كما يقولون: خلق هذا من الكرم، ومنه قوله
وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها، وبين غيبتها عنها إذ يؤمن نفورها حينئذ.
قال الشوكاني (في نيل الأوطار): ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ: "لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئاتها إذا نفرت".
وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها، أو يستمر فيها مع شغل خاطره ـ اهـ كلام الشوكاني.
ومن هذا التعليل المنصوص فهم العلماء القائلون بعدم بطلانها أنه لما كانت علة النهي ما ذكر دل ذلك على أن الصلاة إذا فعلها تامة أنها غير باطلة.
وقيل: العلة أن أصحاب الإبل يتغوطون في مباركها بخلاف أهل الغنم.
وقيل: العلة أن الناقة تحيض، والجمل يمني.
وكلها تعليلات لا معول عليها،
والصحيح التعليل المنصوص عنه صلى الله عليه وسلم بأنها خلقت من الشياطين. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
فإن قيل: ما حكم الصلاة في مبارك البقر؟
فالجواب ـ أن أكثر العلماء يقولون: إنها كمرابض الغنم. ولو قيل: إنها كمرابض الإبل لكان لذلك وجه.
قال ابن حجر (في فتح الباري): وقع في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مرابض الإبل والبقر اهـ. قال: وسنده ضعيف. فلو ثبت لأفاد أن حكم البقر حكم الإبل. بخلاف ما ذكره ابن المنذر أن البقر في ذلك كالغنم. اهـ كلام ابن حجر.
وما يقوله أبو داود رحمه الله من أن العمل بالحديث الضعيف خير من العمل بالرأي له وجه وجيه. والعلم عند الله تعالى.
وأما الصلاة في المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وفوق ظهر بيت الله الحرام فدليل النهي عنها هو ما تقدم من حديث زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا ما في إسناده من الكلام.
وأما الصلاة إلى جدار مرحاض عليه نجاسة، فلما روي من النهي عن ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار): وأما الصلاة إلى جدار مرحاض فلحديث ابن عباس في سبعة من الصحابة بلفظ "نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حش" أخرجه ابن عدي. قال العراقي ولم يصح إسناده.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن عمرو قال: لا يصلى إلى الحش.
وعن علي قال: لا يصلى تجاه حش.
وعن إبراهيم: كانوا يكرهون ثلاثة أشياء.. فذكر منها الحش.
وفي كراهة استقباله خلاف بين العلماء اهـ كلام الشوكاني.
والمراد بالحش ـ بضم الحاء وفتحها ـ بيت الخلاء.
وأما الصلاة في الكنيسة والبيعة ـ والمراد بهما متعبدات اليهود والنصارى ـ فقد كرهها جماعة من أهل العلم.
قال النووي (في شرح المذهب): حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومالك رضي الله عنهم.
قال الشوكاني: وقد رويت الكراهة أيضًا عن الحسن.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن ما روي من ذلك عن عمر وابن عباس ليس على إطلاقه، وإنما هو في الكنائس والبيع التي فيها الصور خاصة. ومما يدل على ذلك ما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه قال: (باب الصلاة في البيعة) وقال عمر رضي الله عنه: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور". وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.
وقال ابن حجر في (الفتح): إن الأثر الذي علقه البخاري عن عمر وصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر. والأثر الذي علق عن ابن عباس وصله البغوي في الجعديات اهـ.
ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم إلا ما هو ثابت عنده.
ورخص في الصلاة في الكنيسة والبيعة جماعة من أهل العلم، منهم أبو موسى، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وابن سيرين، والنخعي والأوزاعي، وغيرهم.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله. ولعل وجه الكراهة هو ما تقدم من اتخاذ قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، لأنه يصير جميع البيع والكنائس مظنة لذلك.
قال مقيده عفا الله عنه: ويحتمل أن تكون العلة أن الكنيسة والبيعة موضع يعصى الله فيه ويكفر به فيه، فهي بقعة سخط وغضب. وأما النهي عن الصلاة إلى التماثيل فدليله ثابت في الصحيح.
فمن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه (في كتاب الصلاة ـ قال: (باب إن صلى في ثوب مصلب، أو تصاوير. هل يفسد صلاته؟ وما ينهى عن ذلك) حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو قال: حدثنا عبد الوارث قال:
حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "أميطي عنَّا قرامكِ هذا إنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي".
وقال البخاري أيضًا (في كتاب اللباس ـ باب كراهية اللباس في التصاوير): حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النَّبي صلى الله عليه وسلم: "أميطي عنِّي فإنَّه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي".
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي إليه فقال: "أَخِّريه عنِّي" قالت: فأخَّرته فجعلته وسائد.
والثوب في هذه الرواية هو القرام المذكور، والقرام ـ بالكسر ـ: ستر فيه رقم ونقوش، أو الستر الرقيق، ومنه قول لبيد في معلقته يصف الهودج: من كل محفوف يظل عصيه زوج عليه كلة وقرامها
وقول الآخر يصف دارًا:
على ظهر جرعاء العجوز كأنها دوائر رقم في سراة قرام
والكلة في بيت لبيد: هي القرام إذا خيط فصار كالبيت.
فهذه النصوص الصحيحة تدل على أنه لا تجوز الصلاة إلى التماثيل. ومما يدل لذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". اهـ هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري قريب منه اهـ.
أما بطلان صلاة من صلى إلى التماثيل ففيه اختلاف بين العلماء، وقد أشار له البخاري بقوله الذي قدمنا عنه (باب إن صلى في ثوب مصلب، أو تصاوير هل تفسد صلاته) الخ.
وقد قدمنا أن منشأ الخلاف في البطلان هو الاختلاف في انفكاك جهة النهي عن جهة الأمر. والعلم عند الله تعالى.
وأما منع تصوير الحيوان وتعذيب فاعليه يوم القيامة أشد العذاب، وأمرهم بإحياء ما صوروا، وكون الملائكة لا تدخل محلًا فيه صورة أو كلب، فكله معروف ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الصلاة في المكان المغصوب فإنها لا تجوز بإجماع المسلمين، لأن اللبث فيها حرام في غير الصلاة، فلأن يحرم في الصلاة أولى.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أنه لو صلى في أرض مغصوبة فصلاته صحيحة لانفكاك الجهة أنه آثم بغصبه، مطيع بصلاته كالمصلي بحرير.
وذهب الإمام أحمد في أصح الروايات عنه، والجبائي وغيره من المعتزلة إلى أنها باطلة. لعدم انفكاك جهة الأمر عن جهة النهي كما قدمنا وقد قدمنا أقوال عامة العلماء في هذه المسألة في أبيات مراقي السعود التي استشهدنا بها. وأما النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث فدليله ما أخرجه أبو داود في سننه قال: (باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام) حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن، عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي قال: قلت له ـ يعني لعمر بن عبد العزيز ـ حدثني عبد الله بن عباس: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث" اهـ.
وهذا الحديث لا يخفى ضعفه، لأن الراوي في هذا الإسناد عن محمد بن كعب لا يدري من هو كما ترى.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا محمد بن إسماعيل، ثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المقدام، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى خلف المتحدث أو النائم"، وإسناد ابن ماجه هذا لا يحتج به أيضًا، لأن الراوي فيه عن محمد بن كعب أبو المقدام وهو هشام بن زياد بن أبي يزيد، وهو هشام بن أبي هشام، ويقال له أيضًا هشام بن أبي الوليد المدني، وهو لا يحتج بحديثه. قال فيه ابن حجر في التقريب: متروك. وقال في تهذيب التهذيب: قال عبد الله بن أحمد، وأبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بثقة. وقال في موضع آخر: ضعيف، ليس بشيء. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال أبو داود: غير ثقة. وقال الترمذي: يضعف. وقال النسائي وعلي بن الجنيد الأزدي: متروك الحديث. وقال النسائي أيضًا: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقه، ومرة ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ليس بالقوي، وكان جارًا لأبي الوليد فلم يرو عنه وكان لا يرضاه. ويقال: إنه أخذ كتاب حفص المنقري عن الحسن فروى عن الحسن. وعنده عن الحسن أحاديث منكرة.
قلت: وقال ابن حبان يروى الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به. وقال الدارقطني: ضعيف، وترك ابن المبارك حديثه. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث. وقال أبو بكر بن خزيمة: لا يحتج بحديثه. وقال العجلي: ضعيف. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف لا يفرح بحديثه اهـ كلام ابن حجر. وبه تعلم أن الصلاة إلى النائم والمتحدث لم يثبت النهي عنها من طريق صحيح.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن الصلاة إلى النائم ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها. قال البخاري في صحيحه (باب الصلاة خلف النائم) حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا هشام قال: حدثني أبي عن عائشة قالت: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت.
وقال ابن حجر في الفتح: أورد فيه حديث عائشة أيضًا من وجه آخر بلفظ آخر للإشارة إلى أنه قد يفرق مفرق بين كونها نائمة أو يقظى. وكأنه أشار أيضًا إلى تضعيف الحديث الوارد في النهي عن الصلاة إلى النائم، فقد أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس اهـ. وقال أبو داود: طرقه كلها واهية ـ يعني حديث ابن عباس وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن عدي. وعن أبي هريرة أخرجه الطبراني في الأوسط، وهما واهيان أيضًا. وكره مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم خشية أن يبدون منه ما يلهي المصلي عن صلاته وظاهر تصرف المصنف أن عدم الكراهة حيث يحصل الأمن من ذلك ـ انتهى كلام ابن حجر في (فتح الباري).
قال مقيده ـ عفا الله عنه: الذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أنه لم يثبت نص خاص في النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث، ولكن ذلك لا ينافي أخذ الكراهة من عموم نصوص أخر، كتعليل كراهة الصلاة إلى النائم بما ذكر من خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته، لأن النائم لا يدري عن نفسه.
وكتعليل كراهة الصلاة إلى المتحدث بأن الحديث يشوش على المصلي في صلاته، والله تعالى أعلم.
وأما كراهة الصلاة في بطن الوادي فيستدل لها بما جاء في بعض روايات حديث زيد بن جبيرة المتقدم في المواضع التي نهى عن الصلاة فيها "وبطن الوادي" بدل "المقبرة" قال الشوكاني قال الحافظ: وهي زيادة باطلة لا تعرف.
وقال بعض العلماء: كراهة الصلاة في بطن الوادي مختصة بالوادي الذي حضر فيه الشيطان النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فناموا عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس،
وأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن يتأخروا عن ذلك الموضع الذي حضرهم فيه الشيطان.
ويجاب عن هذا: بأن الشيطان يمكن أن يكون ذهب عن الوادي. والله تعالى أعلم.
وأما النهي عن الصلاة في مسجد الضرار فدليله قوله تعالى:
وأما كراهة الصلاة إلى التنور فلما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن محمد بن سيرين: أنه كره الصلاة إلى التنور، وقال: هو بيت نار.
وظاهر صنيع البخاري أن الصلاة إلى التنور عنده غير مكروهة، وأن عرض النار على النَّبي صلى الله عليه وسلم في صلاته يدل على عدم الكراهة. قال البخاري في صحيحه (باب من صلى وقدامه تنور أو نار، أو شيء مما يعبد فأراد به الله) وقال الزهري: أخبرني أنس قال قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت عليَّ النَّار وأنا أصلِّي" حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس قال: "انخسفت الشمس فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ قال: "رأيت النَّار فلم أرى منظرًا كاليوم قطُّ أفظع" اهـ.
وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته دليل على عدم الكراهة، لأنه لم يقطع.
وقد دل بعض الروايات الثابتة في الصحيح على أن النار عرضت عليه من جهة وجهه لا من جهة اليمين ولا الشمال، ففي بعض الروايات الصحيحة أنهم قالوا له بعد أن انصرف: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئًا في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت ـ أي تأخرت ـ إلى خلف؟ وفي جوابه: أن ذلك بسبب كونه أرى النار.. إلخ.
فهذا هو حاصل كلام العلماء في الأماكن التي ورد نهي عن الصلاة فيها، التي لها مناسبة بآية الحجر التي نحن بصددها ـ والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى:
ولم يبين جل وعلا هنا شيئًا من تلك الآيات التي آتاهم، ولا كيفية إعراضهم عنها، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر. فبين أن من أعظم الآيات التي آتاهم: تلك الناقة التي أخرجها الله لهم. بل قال بعض العلماء: إن في الناقة المذكورة آيات جمة: كخروجها عشراء، وبراء، جوفاء من صخرة صماء، وسرعة ولادتها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعًا، وكثرة شربها. كما قال تعالى:
فإذا علمت ذلك فاعلم أن مما يبين قوله تعالى:
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} قوله:
وبين إعراض قوم صالح عن تلك الآيات في مواضع كثيرة. كقوله:
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله تعالى:
فدلت الآية على أنه لم يخلق عبثًا ولا لعبًا ولا باطلًا. وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله:
أحدهما ـ إتيان الساعة لا محالة.
والثاني ـ أن إتيانها أنكره الكفار، لأن تعدد التوكيد يدل على إنكار الخبر، كما تقرر في فن المعاني.
وأوضح هذين الأمرين في آيات أخر. فبين أن الساعة آتية لا محالة في مواضع كثيرة كقوله:
وبين جل وعلا إنكار الكفار لها في مواضع آخر. كقوله:
وبين تعالى ذلك المعنى في مواضع آخر. كقوله:
وقال بعض العلماء: هذا الأمر بالصفح منسوخ بآيات السيف. وقيل: هو غير منسوخ. والمراد به حسن المخالفة، وهي المعاملة بحسن الخلق.
قال الجوهري في صحاحه: والخلق والخلق: السجية، يقال: خالص المؤمن، وخالق الفاجر.
قوله تعالى:
والآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقًا إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى:
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة إن كان لها بيان في كتاب الله غير واف بالمقصود، أننا نتمم ذلك البيان من السنة، فنبين الكتاب بالسنة من حيث إنها بيان للقرآن المبين باسم الفاعل. فإذا علمت ذلك فاعلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بين في الحدث الصحيح: أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم في هذه الآية الكريمة: هو فاتحة الكتاب. ففاتحة الكتاب مبينة للمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم، وإنما بينت ذلك بإيضاح النَّبي صلى الله عليه وسلم لذلك في الحديث الصحيح.
قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة: حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: مرَّ بي النَّبي صلى الله عليه وسلم وأنا أُصلِّي، فدعاني فلم آته حتَّى صلَّيت، ثمَّ أتيت فقال: "ما منعك أن تأتيني" فقلت: كنت أُصلِّي. فقال: "ألم يقل الله
فهذا نص صحيح من النَّبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم: فاتحة الكتاب، وبه تعلم أن قول من قال إنها السبع الطوال غير صحيح، إذ لا كلام لأحد معه صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على عدم صحة ذلك القول: أن آية الحجر هذه مكية، وأن السبع الطوال ما أنزلت إلا بالمدينة. والعلم عند الله تعالى.
وقيل لها "مثاني" لأنها تثنى قراءتها في الصلاة.
وقيل لها "سبع" لأنها سبع آيات.
وقيل لها "القرآن العظيم" لأنها هي أعظم سورة. كما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفًا.
وإنما عطف القرآن العظيم على السبع المثاني مع أن المراد بهما واحد وهو الفاتحة لما علم في اللغة العربية: من أن الشيء الواحد إذا ذكر بصفتين مختلفتين جاز عطف إحداهما على الأخرى تنزيلًا لتغابر الصفات منزلة تغابر الذوات. ومنه قوله تعالى:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
قوله تعالى:
والمعنى: قد بلغت وليست مسؤولًا عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياء. قوله تعالى:
وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في الشعراء:
ويفهم من دليل خطاب الآية الكريمة ـ أعني مفهوم مخالفتها ـ أن غير المؤمنين لا يخفض لهم الجناح، بل يعاملون بالشدة والغلظة.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله تعالى:
الأول ـ أن المراد بالمقتسمين: الذين يحلفون على تكذيب الرسل ومخالفتهم، وعلى هذا القول فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين، وهو بمعنى التقاسم.
ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح:
القول الثاني ـ أن المراد بالمقتسمين: اليهود والنصارى. وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها.
ويدل لهذا القول قوله تعالى:
القول الثالث ـ أن المراد بالمقتسمين:
جماعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة، فقال بعضهم: هو شعر. وقال بعضهم: هو سحر. وقال بعضهم: كهانة. وقال بعضهم: أساطير الأولين. وقال بعضهم: اختلفه محمد، صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول تدل له الآيات الدالة على أنهم قالوا في القرآن تلك الأقوال المفتراة الكاذبة، كقوله تعالى:
وعلى أنهم أهل الكتاب ـ فالمراد بالقرآن كتبهم التي جزؤوها فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها، أو القرآن لأنهم آمنوا بما وافق هواههم منه وكفروا بغيره.
وقوله {عضين} جمع عضة، وهي العضو من الشيء، أي جعلوه أعضاء متفرقة. واللام المحذوفة أصلها واو. قال بعض العلماء: اللام المحذوفة أصلها هاء، وعليه فأصل العضة عضهة. والعضه السحر. فعلى هذا القول ـ فالمعنى جعلوا القرآن سحرًا. كقوله:
والعرب تسمي الساحر عاضها، والساحرة عاضهة. والسحر عضها. ويقال: إن ذلك لغة قريش. ومنه قول الشاعر: أعوذ بربي من النافثا ت في عقد العاضه المعضه
تنبيه
فإن قيل: بم تتعلق الكاف في قوله
فالجواب ـ ما ذكره الزمخشري في كشافه قال: فإن قلت بم تعلق قوله {كَمَا أَنزَلْنَا} قلت: فيه وجهان: أحدهما ـ أن يتعلق بقوله: {ولقد آتيناك} أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه. وقيل: كانوا يستهزؤون به فيقول بعضهم: "سورة البقرة" لي، ويقول الآخر: "سورة آل عمران" لي (إلى أن قال) الوجه الثاني ـ أن يتعلق بقوله:
ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في "البحر المحيط" ثم قال أبو حيان:
أما الوجه الأول وهو تعلق {كَمَا} بـ {آتيناك} فذكره أبو البقاء على تقدير، وهو أن يكون في موضع نصب نعتًا لمصدر محذوف تقديره: آتيناك سبعًا من المثاني إيتاء كما أنزلنا، أو إنزالًا كما أنزلنا. لأن "آتيناك" بمعنى أنزلنا عليك.
قوله تعالى:
وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أمر به علنًا في غير خفاء ولا مواربة. وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله
وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر فبلغ على أكمل وجه في مواضع أخر. كقوله:
تنبيه
قوله: {فَاصْدَعْ} قال بعض العلماء: أصله من الصدع بمعنى الإظهار، ومنه قولهم: انصدع الصبح: انشق عنه الليل. والصديع: الفجر لانصداعه، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: ترى السرحان مفترشًا يديه كأن بياض لبته صديع
أي فجر والمعنى على هذا القول: أظهر ما تؤمر به وبلغه علنًا على رؤوس الأشهاد وتقول العرب: صدعت الشيء: أظهرته. ومنه قول أبي ذؤيب:
وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع
قاله صاحب اللسان.
وقال بعض العلماء: أصله من الصدع بمعنى التفريق والشق في الشيء الصلب كالزجاج والحائط. ومنه بمعنى التفريق: قوله تعالى:
يعني أن قلبه افترق إلى جزءين: جزء في المقيم، وجزء في الطاعنين.
وعلى هذا القول ـ
أحدهما ـ أن معنى
والآية على هذا التأويل معناها: فاصدع بما تؤمر ـ أي بلغ رسالة ربك، وأعرض عن المشركين، أي لا تبال بهم ولا تخشهم. وهذا المعنى كقوله تعالى:
الوجه الثاني ـ وهو الظاهر في معنى الآية ـ أنه كان في أول الأمر مأمورًا بالإعراض عن المشركين، ثم نسخ ذلك بآيات السيف. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:
قوله تعالى:
والمستهزؤون المذكورون: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس السهمي والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب.
والآفات التي كانت سبب هلاكهم مشهورة في التاريخ. قوله تعالى:
وقد تكرر تعالى في كتابة الأمر بالشيئين المذكورين في هذه الآية الكريمة، كقوله في الأول:
وأصل التسبيح في اللغة: الإبعاد عن السوء. ومعناه في عرف الشرع: تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله. ومعنى سبح: نزه ربك جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله. وقوله {بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي في حال كونك متلبسًا بحمد ربك، أي بالثناء عليه بجميع ما هو أهله من صفات الكمال والجلال، لأن لفظة {بِحَمْدِ رَبِّكَ} أضيفت إلى معرفة فتعم جميع المحامد من كل وصف كمال وجلال ثابت لله جل وعلا. فتستغرق الآية الكريمة الثناء بكل كمال، لأن الكمال يكون بأمرين:
15 أحدهما ـ التخلي عن الرذائل، والتنزه عما لا يليق، وهذا معنى التسبيح.
والثاني ـ التحلي بالفضائل والاتصاف بصفات الكمال، وهذا معنى الحمد، فتم الثناء بكل كمال.
ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرَّحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، وكقوله في الثاني وهو السجود:
وقالت جماعة من العلماء: المراد بقوله:
قال القرطبي في تفسيره: قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرآى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله يسجد في هذا الموضع، وسجدت معه فيه، ولم يره جماهير العلماء.
قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش أن ههنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب ورأى أنها واجبة ـ انتهى كلام القرطبي.
وقد تقدم معنى السجود في سورة الرعد. وعلى أن المراد بالتسبيح الصلاة فالمسوغ لهذا الإطناب الذي هو عطف الخاص على العام هو أهمية السجود، لأن أقرب ما يكون العيد من ربه في حال كونه في السجود.
قال مسلم في صحيحه: وحدثنا هارون بن معروف، وعمرو بن سواد قالا: حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية، عن سمي مولى أبي بكر، أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".
|